الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.بَابُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَقَالَ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} فَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا.وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي الْأَنْفُسِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ بَيْنَهُمْ قِصَاصًا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: الْقِصَاصُ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَنْفُسِ وَمَا دُونَهَا إلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: إذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إذَا قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَتْهُ بِجِرَاحَةٍ قَالَ: وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا أَوْ جَرَحَهَا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ، فَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ أَقَادَهُمْ بِهَا.وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا.وَاخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، فَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ.وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ.وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِي امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا عَمْدًا قَالَ: تُقْتَلُ، وَتَرُدُّ نِصْفَ الدِّيَةِ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ رُوَاتِهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَتَانِ كَانَ سَبِيلُهُمَا أَنْ تَتَعَارَضَا، وَتَسْقُطَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ.وَعَلَى أَنَّ رِوَايَةً الْحَكَمِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ دُونَ الْمَالِ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وَسَائِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الدِّيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَزِيدَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ.حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَرْشُ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَعَفَا الْقَوْمُ، فَقَالَ: إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ الْقِصَاصُ دُونَ الْمَالِ فَلَا جَائِزٌ إثْبَاتُ الْمَالِ مَعَ الْقِصَاصِ.وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُهُ مَعَ إعْطَاءِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بَدَلًا مِنْ النَّفْسِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ قَتْلُ النَّفْس بِالْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَضِيَ أَنْ يُقْتَلَ، وَيُعْطَى مَالًا يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفْسَ بِالْمَالِ؟ فَبَطَل أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَوْقُوفًا عَلَى إعْطَاءٍ الْمَالِ.وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ الْقَاتِلَةَ قُتِلَتْ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، فَقَوْلٌ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْآي الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ، وَيُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا.وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً، وَعَلَيْهَا أَوْضَاحٌ لَهَا، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهَا.وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ».وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتْلُ جَمَاعَةِ رِجَالٍ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ مَعَ اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ، وَشُهْرَتِهِ عَنْهُ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا.وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلِ مَالٍ، مَا قَدَّمْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ، الْمُسَاوَاة بَيْنَ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّقِيمَةِ، وَقَتْلِ الْعَاقِلِ بِالْمَجْنُونِ، وَالرَّجُلِ بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي النُّفُوسِ، وَأَمَّا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاة، وَاجِبٌ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ أَخْذِ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ.وَكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ، وَالْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَائِهَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ.فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلَّا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ، وَيَدُ الْمَرْأَةِ بِيَدِ الرَّجُلِ كَمَا قُطِعَتْ الْيَدُ الشَّلَّاءُ بِالصَّحِيحَةِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا لَا مِنْ جِهَةِ النَّقْصِ، فَصَارَ كَالْيُسْرَى لَا تُؤْخَذُ بِالْيُمْنَى، وَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا الْقِصَاصَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِتَسَاوِي أَعْضَائِهِمَا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي أَحْكَامِهِمَا، وَلَمْ يُوجِبُوا الْقِصَاصَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَسَاوِيَهُمَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ، وَغَالِبِ الظَّنِّ.كَمَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.وَعِنْدَهُمْ أَنَّ أَعْضَاءَ الْعَبْدِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْجَانِي فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّفْسُ لِأَنَّهَا تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ فِي الْخَطَأ، وَتَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ فَفَارَقَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..بَاب قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ.وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ.وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَائِرُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ يُوجِبُ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى خُصُوصِ أَوَّلِ الْآيَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ؛ لِاحْتِمَالِ الْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ عَطْفَ بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ حُكْمِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِنَا حُكْمَ الْآيَةِ.وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يَقْتَضِي عُمُومُهُ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّنَا مَا لَمْ يَنْسَخْهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَصِيرُ حِينَئِذٍ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}.وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلَى آخِرِهَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إيجَابِهِ الْقِصَاصَ فِي السِّنِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي قَدَّنَا حِينَ قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ»، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَبَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مُوجِبِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَيْنَا، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْنَا شَرِيعَةُ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِنَفْسِ وُرُودِهَا لَكَانَ قَوْلُهُ كَافِيًا فِي بَيَانِ مُوجَبِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ اقْتَضَتْ مِنْ حُكْمِهَا عَلَيْنَا مِثْلَ مَا كَانَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُزُومُ حُكْمِ الْآيَةِ لَنَا، وَثُبُوتُهُ عَلَيْنَا، وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ قَدْ أَلْزَمَنَا هَذَا الْحُكْمَ قَبْلَ إخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِمَّا شَرَّعَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ مَا لَمْ يُنْسَخْ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا، وَصَفْنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَجَبَ إجْرَاءُ حُكْمِهَا عَلَيْهِمَا.وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَظَمَ الْقَوَدَ، وَلَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصْ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ فَهُوَ عَلَيْهِمَا.وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: أَلَا، وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَوَلِيُّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ.وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.وَحَدِيثُ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْعَمْدُ قَوَدٌ».وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَقْتَضِي عُمُومُهَا قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ.وَرَوَى رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ.وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَهُ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ عُثْمَانَ الْفَزَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ، عَنْ وَاسِطَ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةَ إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ ابْنِي، وَلِيَ بَيِّنَةٌ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَشَهِدُوا، وَسَأَلَ عَنْهُمْ فَزُكُّوا، فَأَمَرَ بِالْمُسْلِمِ فَأَقْعِدَ، وَأُعْطِيَ الْحِيرِيُّ سَيْفًا وَقَالَ: أَخْرِجُوهُ مَعَهُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَلْيَقْتُلْهُ، وَأَمْكَنَّاهُ مِنْ السَّيْفِ، فَتَبَاطَأَ الْحِيرِيُّ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ: هَلْ لَكَ فِي الدِّيَةِ تَعِيشُ فِيهَا، وَتَصْنَعُ عِنْدَنَا يَدًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَغَمَدَ السَّيْفَ، وَأَقْبَلَ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: لَعَلَّهُمْ سَبُّوكَ وَتَوَاعَدُوكَ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ، وَلَكِنِّي اخْتَرْتُ الدِّيَةَ.فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَل عَلِيٌّ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَعْطَيْنَاهُمْ الَّذِي أَعْطَيْنَاهُمْ لِتَكُونَ دِمَاؤُنَا كَدِمَائِهِمْ، وَدِيَاتُنَا كَدِيَاتِهِمْ.وَحَدَّثَنَا ابْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْن مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْعَبَّادِيِّينَ، فَقَدِمَ أَخُوهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ يُقْتَلَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا جُبَيْرُ اُقْتُلْ فَجَعَلَ يَقُولُ: حَتَّى يَأْتِيَ الْغَيْظُ.فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ لَا يُقْتَلَ، وَيُودَى.وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكِتَابَ، وَرَدَ بَعْد أَنْ قُتِلَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَتَبَ أَنْ يَسْأَلَ الصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ حِينَ كُتِبَ إلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ.وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: إذَا قَتَلَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قُتِلَ بِهِ.وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرَانَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِيَهُودِيٍّ فَقُتِلَ.فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَابَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافَهُ.وَاحْتَجَّ مَانِعُو قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» رَوَاهُ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ.وَقِيلَ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ سِوَى الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: مَا عَهْدِي إلَّا كِتَابٌ فِي قِرَابِ سَيْفِي، وَفِيهِ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ».وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ طَلْحَةَ بْن مُصَرِّفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ».وَلِهَذَا الْخَبَرِ ضُرُوبٌ مِنْ التَّأْوِيلِ كُلُّهَا تُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا إنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمَ بِالْكَافِرِ الَّذِي قَتَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: «كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ» لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فِي حَدِيثٍ.وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي أَنَّ عَهْدَ الذِّمَّةِ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ إلَى مُدَدٍ لَا عَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِ.وَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» مُنْصَرِفًا إلَى الْكُفَّارِ الْمُعَاهَدِينَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِمِّيٌّ يَنْصَرِفُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ} وَقَالَ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَئِذٍ ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْحَرْبِ، وَمَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ: أَهْلُ عَهْدٍ إلَى مُدَّةٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَهْلُ ذِمَّةٍ، فَانْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الضَّرْبَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.وَفِي فَحْوَى هَذَا الْخَبَرِ وَمَضْمُونِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُعَاهَدِ دُونَ الذِّمِّيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ} غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ الْفَائِدَةِ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا قَبْلَهُ، فَهُوَ إذًا مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرِ، وَضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ الْمُسْتَأْمَنِ هُوَ الْحَرْبِيُّ، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ.وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ {وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ} مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ الْمَبْدُوُّ قَتْلًا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُ الضَّمِيرِ قَتْلًا مُطْلَقًا، إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْخِطَابِ ذِكْرُ قَتْلٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ عَلَى وَجْهِ الْقَوَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَنْفِيَّ بِقَوْلِهِ: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِالْكَافِرِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا.وَلَوْ أَضْمَرْنَا قَتْلًا مُطْلَقًا كُنَّا مُثْبِتِينَ لِضَمِيرٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَكَانَ الْكَافِرُ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو الْعَهْدِ هُوَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ، كَانَ قَوْلُهُ: {لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ} بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالذِّمِّيِّ.وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْعَهْدِ يَحْظُرُ قَتْلَهُ مَا دَامَ فِي عَهْدِهِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، لَأَخْلَيْنَا اللَّفْظَ مِنْ الْفَائِدَةِ، وَحُكْمُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلُهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي الْفَائِدَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إلْغَاؤُهُ، وَلَا إسْقَاطُ حُكْمِهِ.فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَهْدَ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَنْفِي قَتْلَ الْمُؤْمِنِ بِسَائِرِ الْكُفَّارِ.قِيلَ: هُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ قَدْ عَزَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ أَيْضًا إلَى الصَّحِيفَةِ.وَكَذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وَإِنَّمَا حَذَفَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْعَهْدِ، فَأَمَّا أَصْلُ الْحَدِيثِ فَوَاحِدٌ.وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ لَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ مَرَّةً مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ، وَتَارَةً مَعَ ذِكْرِ ذِي الْعَهْدِ.وَأَيْضًا فَقَدْ وَافَقْنَا الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَوَدُ، فَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً لَمَنَعَهُ إذَا طُرِئَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصِ لِلِابْنِ عَلَى الْأَبِ إذَا قَتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذَا وَرِثَ ابْنُهُ الْقَوَدَ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَمَنَعَ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَائِهِ كَمَا مَنَعَ ابْتِدَاءَ وُجُوبِهِ.وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ، وَلَوْ جَرَحَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ سَقَطَ الْقَوَدُ، فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ.فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقَتْلُ بَدِيًّا لَمَا وَجَبَ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْقَتْلِ.وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَقَاءِ حَيَاةِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بَقَاءَهُ حِينَ حَقَنَ دَمَهُ بِالذِّمَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ كَمَا يُوجِبُهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُكَ عَلَى هَذَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الدَّمِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ الدَّمِ إبَاحَةً مُؤَجَّلَةً، أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَتْرُكُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَنُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ وَالتَّأْجِيلُ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ لَا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ عَنْ وُجُوبِهِ؟ وَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ مَنَعَ الْقِصَاصَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» قَالُوا: وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ دَمِ الْكَافِرِ مُكَافِئًا لِدَمِ الْمُسْلِمِ.وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ قوله: {الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ} لَا يَنْفِي مُكَافَأَةَ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ إيجَابُ التَّكَافُؤِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ فَهَذِهِ كُلُّهَا فَوَائِدُ هَذَا الْخَبَرِ وَأَحْكَامُهُ.وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا إيجَابُ الْقَوَدِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَتَكَافُؤُ دِمَائِهِمَا، وَنَفْيٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ إذَا قَتَلُوا الْقَاتِلَ أَوْ إعْطَاءِ نِصْفِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ قَتْلِهَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْقَاتِلَةَ.فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» قَدْ أَفَادَ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَهُوَ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذَّمَّةِ.وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ تَكَافُؤَ دِمَاءِ الْكُفَّارِ حَتَّى يُقَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ الْبَعْضِ إذَا كَانُوا ذِمَّةً لَنَا، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَكَافُؤَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ.وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا سَرَقَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَادَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَالِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ فِي مَال مَوْلَاهُ، وَيُقْتَلُ بِهِ.وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَهُمَا فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ.وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ؛ لِأَنَّ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ قَدْ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ.وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ ذَلِكَ حَدًّا لَا قَوَدًا، وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقَتْلِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ قَتْلِ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ.وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَعُمُومُهَا يُوجِبُ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ كَانَ مَحْجُوجًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
|